اتصل بنا
 

الحقيقة هدف متحرك

رمزي الغزوي أديب وإعلامي أردني عربي

نيسان ـ نشر في 2025-10-21 الساعة 14:13

نيسان ـ في زمن صار فيه الواقع يُفصّل حسب المزاج، والحقيقة تُقصّ وتُلصق كما تُركّب القصص في غرف الأخبار البديلة، أصبح الكذب لا يحتاج إلى عباءة. الكذب اليوم يسير واثقا، أنيقا، مدعوما بالخوارزميات، ومصنوعا في مختبرات النفوذ. أما الحقيقة، تلك العجوز المتعبة، فتلهث خلفه، تتعثر في صخب السوشال ميديا، وتُصفّد بالاتهامات: متحيّزة، ممولة، أو ببساطة... غير مرحب بها.
نحن لا نتحدث عن خطر محتمل، بل عن واقع نعيشه كل يوم. منصات عملاقة تتخلى طوعا عن مسؤوليتها، بدعوى الحياد أو الخوف من خسارة المستخدمين. خوارزميات تربّي «فقاعات التصديق»، حيث يرى كلٌّ ما يريد أن يرى، لا ما هو حقيقي. حكومات تغازل هذه الفوضى حين تروق لها، وتدينها حين تتعارض مع سرديتها.
ومع ذلك، لا تزال هناك محاولات جادة تقاوم هذا الانهيار الصامت. مجموعات صغيرة، غير ربحية، طورت أدوات ذكية تتابع سيل المعلومات وتُميّز بين الزائف والصادق، بين ما يُنقذ حياة وما يضلل الملايين. هذه الجهود لا تسعى لفرض رأي، بل لتوفير سياق. لا تمنع الحوار، بل تعيد له أرضيته الأخلاقية.
لكن هل يكفي ذلك؟ كيف نواجه طوفان التضليل الذي تديره جيوش إلكترونية مدعومة، وأفراد يروّجون الكذب دون وعي أو بدافع الترفيه؟ هل نكتفي بتحديث القوانين، أم نحتاج إلى تحديث الوعي ذاته؟
في قلب كل هذا، تتكرر المأساة: كلما قل احترام الحقيقة، زاد خطر الانقسام، وازدهر خطاب الكراهية، وسقطنا جميعا في فخ الغرائز. الحقيقة ليست ترفا ثقافيا. بل هي البنية التحتية لعقل المجتمع، وإذا انهارت ينهار معها كل ما نظنه صامدا.
لا نحتاج إلى المزيد من الضجيج. نحتاج إلى شجاعة باردة تقف في وجه الزيف، لا بالردح، بل بالتدقيق. نحتاج إلى جيل لا تروّعه الأسئلة الصعبة، ولا يسكر بالأجوبة السهلة. ربما لن نربح هذه المعركة سريعا. لكن التخلي عنها يعني أن نترك أطفالنا ينشأون في عالم بلا بوصلة، بلا ثقة، بلا معنى.
فهل نملك الجرأة أن نرفع رأسنا، ونسأل: ما الذي ضاع منا حين فقدنا احترامنا للحقيقة؟ وإن كنا لا نعرف الجواب، فربما يجب أن نخاف أكثر مما كنا نظن.

نيسان ـ نشر في 2025-10-21 الساعة 14:13


رأي: رمزي الغزوي رمزي الغزوي أديب وإعلامي أردني عربي

الكلمات الأكثر بحثاً